فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الْقِسْمَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الْقِسْمَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْقِسْمَةِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: حُكْمُ الْقِسْمَةِ ثُبُوتُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَقْسُومِ عَيْنًا تَصَرُّفًا فِيهِ فَيَمْلِكُ الْمَقْسُومُ لَهُ فِي الْمَقْسُومِ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَاحَةٌ لَا بِنَاءَ فِيهَا، وَوَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَلِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ فِي سَاحَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ يُفْسِدُ عَلَيْهِ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ عَنْهُ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي سَاحَتِهِ مَخْرَجًا أَوْ تَنُّورًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ رَحًى؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي بِنَائِهِ حَدَّادًا، أَوْ قَصَّارًا، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ كُوَّةً؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْجِدَارَ أَصْلًا فَفَتْحُ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ أَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ كِرْبَاسًا، وَإِنْ كَانَ يَهِي بِذَلِكَ حَائِطَ جَارِهِ، وَلَوْ طَلَبَ جَارُهُ تَحْوِيلَ ذَلِكَ؛ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى التَّحْوِيلِ، وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُمْنَعَ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْكَفَّ عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ أَحْسَنُ.
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} خَصَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ، فَلَئِنْ لَا يُحْسِنُ إلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ أَذَاهُ.
وَعَلَى هَذَا دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَلِرَجُلٍ فِيهَا طَرِيقٌ فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَاهَا، لَيْسَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ مَنْعُهُمَا عَنْ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا بِالْقِسْمَةِ مُتَصَرِّفَانِ فِي مِلْكِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا يُمْنَعَانِ عَنْهُ، فَيَقْتَسِمَانِ مَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ، وَيَتْرُكَانِ الطَّرِيقَ عَلَى حَالِهِ عَلَى سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ.
وَلَوْ بَاعُوا الدَّارَ وَالطَّرِيقَ فَإِنْ كَانَتْ رَقَبَةُ الطَّرِيقِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ؛ قَسَمُوا مَمَرَّ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ لِشَرِيكَيْ الدَّارِ وَلِصَاحِبِ الطَّرِيقِ حَقُّ الْمُرُورِ، حَكَى الْقُدُورِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنْ لَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ مِنْ الثَّمَنِ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ لِلشَّرِيكَيْنِ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَضْرِبُ بِحَقِّهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الطَّرِيقِ بِحَقِّ الْمُرُورِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ، وَيَنْظُرَ إلَى قِيمَتِهَا وَفِيهَا طَرِيقٌ، فَيَكُونَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفُ قِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَ فِيهَا طَرِيقٌ.
(وَجْهُ) مَا حُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا بِيعَ الطَّرِيقُ بِإِذْنِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ أَصْلًا فَلَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ.
(وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ، وَهَاهُنَا مَا بِيعَ مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ فَيُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، لَكِنْ ثَمَنُ الْحَقِّ لَا ثَمَنُ الْمِلْكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَكَذَلِكَ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِيهَا مَسِيلُ الْمَاءِ، فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَاهَا لَيْسَ لِصَاحِبِ الْمَسِيلِ مَنْعُهُمَا مِنْ الْقِسْمَةِ؛ لِمَا قُلْنَا، بَلْ يَقْسِمُ الدَّارَ وَيَتْرُكُ الْمَسِيلَ عَلَى حَالِهِ كَمَا فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الدَّارِ مَنْزِلٌ لِرَجُلٍ وَطَرِيقُهُ فِي الدَّارِ، فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَا الدَّارَ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَلَكِنْ يَتْرُكَانِ طَرِيقَ الْمَنْزِلِ عَلَى حَالِهِ عَلَى سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ، لَا عَلَى سَعَةِ بَابِ الْمَنْزِلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ يَفْتَحَ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ بَابًا آخَرَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْحَائِطَ كُلَّهُ فَهَذَا أَوْلَى، وَلَوْ اشْتَرَى صَاحِبُ الْمَنْزِلِ دَارًا مِنْ وَرَاءِ الْمَنْزِلِ وَفَتَحَ بَابَهُ إلَى الْمَنْزِلِ، فَإِنْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ وَاحِدًا فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ مِنْ الدَّارِ إلَى الْمَنْزِلِ، وَمِنْ الْمَنْزِلِ إلَى الطَّرِيقِ الَّذِي فِي الدَّارِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ غَيْرَ سَاكِنِ الْمَنْزِلِ فَلَيْسَ لِسَاكِنِ الدَّارِ أَنْ يَمُرَّ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي فِي الدَّارِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فَيُمْنَعُ مِنْ الْمُرُورِ فِيهِ.
دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ اقْتَسَمَاهَا، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مِنْهَا، فَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ كُوَّةً إلَى السِّكَّةِ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَسَعُ لِأَهْلِ السِّكَّةِ مَنْعُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ رَفْعَ الْحَائِطِ أَصْلًا فَالْبَابُ وَالْكُوَّةُ أَوْلَى.
وَعَلَى هَذَا حَائِطٌ بَيْنَ قَسِيمَيْنِ وَلِأَحَدِ الْقَسِيمَيْنِ عَلَيْهِ جُذُوعُ الْحَائِطِ الْآخَرِ فَإِنْ شَرَطُوا قَطْعَ الْجُذُوعِ فِي الْقِسْمَةِ قَطَعَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا تُرِكَ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ التَّرْكَ وَإِنْ كَانَ ضَرَرًا لَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَطْعَ فِي الْقِسْمَةِ فَقَدْ اُلْتُزِمَ الضَّرَرُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَقَعَ عَلَى هَذَا الْحَائِطِ دَرَجَةٌ أَوْ أُسْطُوَانَةٌ جُمِعَ عَلَيْهَا جُذُوعٌ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ رَوْشَنًا وَقَعَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ شَرَفًا عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُقْلِعَ الرَّوْشَنَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَطْرَافُ خَشَبٍ عَلَى حَائِطِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهَا سَقْفٌ لَمْ يُكَلَّفْ قَلْعُهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ كُلِّفَ الْقَلْعَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهَا سَقْفٌ أَمْكَنَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَيَلْتَحِقُ بِالْحُقُوقِ، فَأَشْبَهَ الرَّوْشَنَ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَعَذُّرُ إلْحَاقِهَا بِالْحُقُوقِ فَبَقِيَ شَاغِلًا هُوَ لِصَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيُكَلَّفُ قَطْعَهَا، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا شَجَرَةٌ أَغْصَانُهَا مُظِلَّةٌ عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ فَهَلْ تُقْطَعُ؟ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ؛ لِأَنَّ فِي الْقَطْعِ ضَرَرًا لِصَاحِبِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ تُقْطَعُ كَمَا يُقْطَعُ أَطْرَافُ الْخَشَبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَسْقِيفُهَا، وَلَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ طَرِيقٍ فِي الطَّرِيقِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَهُ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، لَا عَلَى ذُرْعَانِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي الْيَدِ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْمُرُورِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ لِأَحَدِهِمْ بَيِّنَةٌ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ.
دَارٌ لِرَجُلٍ وَفِيهَا طَرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّارِ، فَاقْتَسَمَتْ الْوَرَثَةُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ، وَتَرَكُوا الطَّرِيقَ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ نِصْفَيْنِ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، حَتَّى لَوْ بَاعُوا الدَّارَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَهُ نِصْفَيْنِ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَ الْمُوَرِّثِ، وَقَدْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَذَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الدَّارَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ وَجَحَدُوا ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْيَدِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الَّذِي يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ؛ إذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ، وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا اقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ؛ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ سَوَاءً كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِرْثِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، قَالَ اللَّهُ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.
قَدَّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ؛ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْوَرَثَةِ فِيهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بَلْ هِيَ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بِهَا بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَقِيَامُ مِلْكِ الْغَيْرِ فِي الْمَحِلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ، فَقِيَامُ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ أَوْلَى.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَمِلْكُ الْمَيِّتِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ- وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ- ثَابِتٌ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ التَّرِكَةِ عَلَى الشُّيُوعِ، فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يُجْعَلُ الدَّيْنُ فِيهِ، وَتَمْضِي الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُصَانُ عَنْ النَّقْضِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ صِيَانَتُهَا بِجَعْلِ الدَّيْنِ فِيهِ، وَكَذَا الْوَرَثَةُ إذَا قَضَوْا الدَّيْنَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ لَا تُنْقَضُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِصُورَةِ التَّرِكَةِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَعْنَاهَا وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، فَإِذَا قَضَوْا الدَّيْنَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ اسْتَخْلَصُوا التَّرِكَةَ لِأَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ اقْتَسَمُوا مَالَ أَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً فَلَا تُنْقَضُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ مِنْ دُيُونِهِمْ لَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لِحَقِّهِمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ بِالْإِبْرَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ لِبَعْضِ الْمُقْتَسِمِينَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ، بِأَنْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا تَكُونُ قِسْمَتُهُ إبْرَاءً مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ وَهُوَ مَالِيَّتُهَا لَا بِالصُّورَةِ، وَلِهَذَا كَانَ لِلْوَرَثَةِ حَقُّ الِاسْتِخْلَاصِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ إقْرَارًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ فَسُمِعَتْ.
(وَمِنْهَا) ظُهُورُ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ ثَمَّ مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ؛ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يُهْلَكُ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ جَمِيعًا، وَالْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ غَائِبٌ تُنْقَضُ، فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ كَانَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَسَمَ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا تُنْقَضُ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي إذَا صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ يَنْفُذُ وَلَا يُنْقَضُ.
(وَمِنْهَا) ظُهُورُ الْوَارِثِ حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ؛ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ ادَّعَى وَارِثٌ وَصِيَّةً لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ، حَتَّى لَا تُسْمَعَ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ؛ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي الدَّعْوَى إذْ لَا تَصِحُّ قِسْمَتُهُمْ الْمِيرَاثَ وَثَمَّ مُوصًى لَهُ، فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ إقْرَارًا مِنْهُ بِانْعِدَامِ الْوَصِيَّةِ، فَكَانَ دَعْوَى وُجُودِ الْوَصِيَّةِ مُنَاقِضَةً فَلَا تُسْمَعُ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الصَّغِيرِ بِقِسْمَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَنَّ أَخًا لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَرِثَ أَبَاهُ مَعَهُمْ، وَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ وَوَرِثَهُ هَذَا الْمُدَّعِي، وَجَحَدَ الْبَاقُونَ ذَلِكَ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ هُنَا قُضِيَ فِي دَعْوَاهُ؛ لِدَلَالَةِ إقْرَارِهِ بِانْعِدَامِ وَارِثٍ آخَرَ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مِيرَاثٍ يَدَّعِيهِ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِلتَّنَاقُضِ بِدَلَالَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ مِنْهَا لِرَجُلٍ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ لَمْ يُوجِبْ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالْعَيْنِ لِحَقِّ الشَّرِيكِ الْآخَرِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَتُقْسَمُ الدَّارُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَمَتَى قُسِمَتْ فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتُ الْمُقَرُّ بِهِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ دَفَعَهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ صَحَّ وَتَسْلِيمُ عَيْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مُمْكِنٌ، فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ يَدْفَعُ إلَيْهِ قَدْرَ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ، فَيَقْسِمُ مَا أَصَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ، فَيَضْرِبُ الْمُقَرُّ لَهُ بِذَرْعِ الْبَيْتِ وَيَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذَرْعِ الدَّارِ بَعْدَ الْبَيْتِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ- وَقَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذَرْعِ الدَّارِ كَمَا قَالَا، وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَضْرِبُ بِنِصْفِ ذَرْعِ الْبَيْتِ لَا بِكُلِّهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَرْعُ الدَّارِ مِائَةً، وَذَرْعُ الْبَيْتِ عَشَرَةً، فَتُقْسَمُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، يَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ جَمِيعُ ذَرْعِ الْبَيْتِ وَالْبَاقِي- وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ- لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ ذَرْعِ الدَّارِ بَعْدَ ذَرْعِ الْبَيْتِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، إذْ هُوَ نِصْفُ ذَرْعِ الْبَيْتِ الْمُقَرِّ بِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْإِقْرَارَ صَادَفَ مَحِلًّا مُعَيَّنًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْأَيْنِ مِنْ الدَّارِ أَحَدُهُمَا لَهُ، وَالْآخَرُ لِصَاحِبِهِ عَلَى الشُّيُوعِ فَيَبْطُلُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَصِحُّ فِي نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ لِلْمُقَرِّ لَهُ نِصْفُ ذَرْعِ الْبَيْتِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ، وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ لَمَنَعَ، فَإِذَا قُسِمَتْ الدَّارُ الْآنَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، فَإِنْ وَقَعَ الْمُقَرُّ بِهِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ عَيْنِهِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ بَدَلِهِ مِنْ نَصِيبِهِ، وَهُوَ تَمَامُ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ شَيْئًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، كَبَيْتٍ مِنْ حَمَّامٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِضْرَارِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْجَبْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَالْإِقْرَارُ بِعَيْنٍ مَعْجُوزِ التَّسْلِيمِ يَكُونُ إقْرَارًا بِبَدَلِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَصِيَانَةً لِحَقِّ الْغَيْرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، كَالْإِقْرَارِ بِجِذْعٍ فِي الدَّارِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ:

هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ.
(وَأَمَّا) قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ فَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُهَايَئَاتِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمُهَايَئَاتِ وَمَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجُوزُ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْمُهَايَئَاتِ وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ وَمَا لَا يَمْلِكُ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْمُهَايَئَاتُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الزَّمَانِ.
(أَمَّا) النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَتَهَايَآ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مِنْهَا يَسْكُنُهَا وَأَنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَئَاتِ قِسْمَةٌ فَتُعْتَبَرُ بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ، وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ، وَكَذَا لَوْ تَهَايَئَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا السُّفْلَ وَالْآخَرُ الْعُلْوَ جَازَ ذَلِكَ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي هَذَا النَّوْعِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ لَيْسَتْ بِمُبَادَلَةِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَنَا، كَإِجَازَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَهَايَئَا فِي دَارَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا يَسْكُنُهَا أَوْ يَسْتَغِلُّهَا فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ.
(أَمَّا) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي عَيْنِ الدُّورِ جَائِزَةٌ، فَكَذَا فِي الْمَنَافِعِ.
(وَأَمَّا) أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ.
(وَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الدُّورَ فِي حُكْمِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ فِي نَفْسِهَا وَبِنَائِهَا وَمَوْضِعِهَا، وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ.
(وَأَمَّا) التَّفَاوُتُ فِي الْمَنَافِعِ فَقَلَّ مَا يَتَفَاحَشُ بَلْ يَتَقَارَبُ، فَلَمْ تَلْتَحِقُ مَنَافِعُ الدَّارَيْنِ بِالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجَازَتْ الْقِسْمَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَهَايَئَا فِي عَبْدَيْنِ عَلَى الْخِدْمَةِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ.
(أَمَّا) عِنْدَهُمَا؛ فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي أَعْيَانِ الرَّقِيقِ جَائِزَةٌ، وَكَذَا فِي مَنَافِعِهَا.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الدَّارَيْنِ وَلَوْ تَهَايَئَا فِي عَبْدَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا يَخْدُمُهُ وَشَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ طَعَامَ الْعَبْدِ الَّذِي يَخْدُمُهُ؛ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ.
(وَوَجْهُهُ) أَنَّ طَعَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ، فَاشْتِرَاطُ كُلِّ الطَّعَامِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ مُعَاوَضَةِ بَعْضِ الطَّعَامِ بِالْبَعْضِ، وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِلْجَهَالَةِ.
(وَوَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّعَامِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دُونَ الْمُضَايِقَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ كِسْوَةَ الْعَبْدِ الَّذِي يَخْدُمُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي الْكِسْوَةِ مِنْ الْمُضَايِقَةِ مَا لَا يَجْرِي فِي الطَّعَامِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْكِسْوَةِ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، مَعَ مَا إنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْكِسْوَةِ تَتَفَاحَشُ بِخِلَافِ الطَّعَامِ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) التَّهَايُؤُ فِي الدَّوَابِّ بِأَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا وَالْآخَرُ دَابَّةً أُخْرَى مِنْ جِنْسِهَا يَسْتَغِلُّهَا، وَشَرَطَ الِاسْتِغْلَالَ فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي أَعْيَانِ الدَّوَابِّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ جَائِزَةٌ، فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ أَنَّهُ جَوَّزَ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي أَعْيَانِهَا وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي مَنَافِعِهَا.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَكِنَّهَا فِي مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِلرُّكُوبِ، وَلَوْ فَعَلَ لَضَمِنَ، فَأَشْبَهَ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ اخْتِلَافَ جِنْسِ الْعَيْنِ، وَاخْتِلَافُ جِنْسِ الْعَيْنِ عِنْدَهُ مَانِعٌ جَوَازَ قِسْمَةِ الْجَمْعِ، كَذَا فِي الْمَنْفَعَةِ، بِخِلَافِ الْمُهَايَئَاتِ فِي الدَّارَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَنَافِعَ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَفَاحِشَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِيهَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ فَجَازَتْ الْمُهَايَئَاتُ.
(وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَهُوَ أَنْ يَتَهَايَآ فِي بَيْتٍ صَغِيرٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ هَذَا يَوْمًا، وَهَذَا يَوْمًا، أَوْ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، وَهَذَا جَائِزٌ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا صَالِحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُهَايَئَاتُ فِي الشِّرْبِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَثَبَتَ جَوَازُ النَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ لِمَكَانِ حَاجَاتِ النَّاسِ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ كُلَّهَا فِي احْتِمَالِ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ شَرْعٌ، سَوَاءٌ مِنْ الْأَعْيَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ كَالْعَبْدِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَمَّا جَازَتْ تِلْكَ فَلَأَنْ تَجُوزَ هَذِهِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ فَنَقُولُ- وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: إنَّ مَحِلَّهَا الْمَنَافِعُ دُونَ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ، فَكَانَ مَحِلُّهَا الْمَنْفَعَةَ دُونَ الْعَيْنِ، حَتَّى أَنَّهُمَا لَوْ تَهَايَئَا فِي نَخْلٍ أَوْ شَجَرٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً يَسْتَثْمِرُهَا؛ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إذَا تَهَايَئَا فِي الْغَنَمِ الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَطِيعًا وَيَنْتَفِعُ بِأَلْبَانِهَا- لَا يَجُوزُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا عَقْدُ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ، وَالثَّمَرُ وَاللَّبَنُ عَيْنُ مَالٍ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُهَايَئَاتِ، وَلَوْ تَهَايَئَا فِي الْأَرَاضِي الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا وَيَذْرَعُ- جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ، وَهُوَ مَعْنَى الْمُهَايَئَاتِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: صِفَةُ الْمُهَايَئَاتِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْمُهَايَئَاتِ فَهِيَ أَنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، حَتَّى لَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ قَسَمَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَفَسَخَ الْمُهَايَئَاتِ؛ لِأَنَّهَا كَالْخُلْفِ عَنْ قِسْمَةِ الْعَيْنِ، وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ كَالْأَصْلِ فِيمَا شُرِعَتْ لَهُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ مَنَافِعِ الْمِلْكِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي قِسْمَةِ الْعَيْنِ أَكْمَلُ؛ وَلِهَذَا لَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ قَبْلَ الْمُهَايَئَاتِ؛ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ فَكَانَ عَقْدًا جَائِزًا فَاحْتَمَلَ الْفَسْخَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ بَطَلَتْ لَأَعَادَهَا الْقَاضِي لِلْحَالِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ.